الجمعة، ٧ نوفمبر ٢٠٠٨

رسالة إلى ابني
عبارة عن آراء ومواقف
نشأت وترعرعت في خاطري ، ثم أطلقتها كالصيد في البراري ، فقلت لا يصلح صيد بلا قيد ، ولا يصلح بعد القيد حبس ، فا قول مستعينا بالله :
أبني العزيز أعلم رحمك الله إنك لم تخلق عبثا ولم تترك سدا بل خلقت لأمر مهم ومهم جدا إلا وهي عباة الله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }الذاريات56 {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }الملك2 أنظر بني إلى الطريق التي أختارها ربك لك حينما خلقك وكونك وأوجدك من العدم إلى الوجود لتسلكها إنها طريق معبده مسهلة مذللة لاشوائب فيها ولا منغصات ولا عقبات وإكان فيها شيء من ذك فقد جعل لك حواس بها تستطيع عبور كل تلك الشوائب
(( أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ )) إذا خلق الموت وهو نهاية كل حي وخلق الحياة وجعلك تتصرف كيف شئت لماذا خلق الموت والحياة من أجل أن يبتلينا أينا أحسن عملا فيستحق رضوان الله ويرافق النبيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .. أو إن نعرض عن ذلك ونتمتع بكل ما وجد على الأرض من حلال وحرام والإقامة على وجه الأرض يسيرة مهما طالت الحياة ((قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ )) المؤمنون (114) أنظر يأبني كيف يتصور الإنسان مقدار ما عاش على ظهر الأرض لقد عاش اغلب الخلق أكثر من الألف عام ولكن من هول الموقف لا يدري ماذا يجيب به ربه في ذلك الموقف فيردد العبارة السابقة يوم أو بعض يوم والحقيقة إ ن الحياة قصيرة . ابني العزيز اعلم أني لم أنصحك أكرر عليك بغضا لك ولكن حبا وشفقة عليك كما يعلم الله ذلك فإن رأيتك تتكاسل عن صلاة الجماعة كان ذلك مدعاة إثارة لي ويصعب علي أن أراك على المعصية وأنا أعلم عاقبتها {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً }الفرقان20
قال الله تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ }التغابن 15يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله, إنَّ مِن أزواجكم وأولادكم أعداء لكم يصدونكم عن سبيل الله, ويثبطونكم عن طاعته, فكونوا منهم على حذر, ولا تطيعوهم, وإن تتجاوزوا عن سيئاتهم وتعرضوا عنها, وتستروها عليهم, فإن الله غفور رحيم, يغفر لكم ذنوبكم؛ لأنه سبحانه وتعالى ينظر إلى - العبد التقي فهو من حفظ حدود الله وراعى حقوقه، ومن اتقى الله وقاه، ومن كل خير آتاه، ومن يتق الله يجعل عُسْرَهُ يُسراً، ويُعظِم الله بالتقوى له أجراً... قال قتادة ( من يتق الله يكن معه ، ومن يكن الله معه ، فمعه القوة التي لا تُغلب ، والحارس الذي لا ينام ، والهادي الذي لا يضل ) .
فالتقوى جماع الخير كله، يُلْبِسُها العبد الموفق أثناء الشعائر التعبديّة كما تكون في مشاعرِهِ القلبية ومعاملاته التجاريّة والحياتيّة وغيرها... فهي الحاكم على تصرفاته وأخلاقه وسائر شؤون حياته.
عن وهب بن منبه ، قال : قال رجل من العباد لابنه : « يا بني ، لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ، ويؤخر التوبة بطول الأمل الوفاق‏

وإليك ابني هذه النصائح القيمة من إمام فاضل نحسبه كذلك والله حسيبه الشيخ / عبد الرحمن بن الجوزي صاحب المولفات المشهورة رحمة الله عليه وهي :

لَفْتَةُ الكِبْدِ إلى نصيحَةِ الوِلْدِ
بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين.المقدمةالحمد لله الذي أنشأ الأب الأكبر1 من تراب، وأخرج ذريته من الترائب2 والأصلاب، وعضد3 العشائر بالقرابة والأنساب، وأنعم علي بالعلم وعرفان الصواب، وأحسن تربيتي في الصبا4، وحفظني في الشباب، ورزقني ذرية أرجو بوجودهم5 وفور6 الثواب: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم].أما بعد؛ فإني لما عرفت شرف النكاح، وفضل7 الأولاد، ختمت ختمة، وسألت الله تعالى أن يرزقني عشرة أولاد، فرزقنيهم8، فكانوا: خمسة ذكور، وخمس إناث، فمات من الإناث اثنتان، ومن الذكور أربعة، فلم يبق من الذكور سوى ولدي أبي القاسم9، فسألت الله تعالى أن يجعل فيه الخلف الصالح، وأن يبلغ به المنى والمناجح.

- ثم رأيت منه نوع توان1 عن الجهد في طلب العلم، فكتبت له2 هذه الرسالة، أحثه بها، وأحركه على سلوك طريقي في كسب العلم، وأدله على الالتجاء3 إلى الموفق سبحانه وتعالى، مع علمي بأنه لا خاذل لمن وفق، ولا مرشد لمن أضل؛ لكن قد قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر: 3]، وقال: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9]، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

- فصل: تميز الآدمي بالعقلاعلم يا بني -وفقك الله للصواب- أنه لم يتميز الآدمي بالعقل إلا ليعمل بمقتضاه، فاستحضر عقلك، وأعمل فكرك، واخل بنفسك.تعلم بالدليل أنك مخلوق مكلف، وأن عليك فراض أنت مطالب بها، وأن الملكين يحصيان ألفاظك ونظراتك، وأن أنفاس الحي خطاه إلى أجله1، ومقدار اللبث في الدنيا قليل، والحبس في القبول طويل، والعذاب على موافقة الهوى وبيل2، فأين لذة أمس؟ رحلت وأبقت ندمًا!!. وأين شهوة النفس؟ كم نكست رأسًا، وأزلت قدمًا، وما سعد من سعد إلا بخلاف هواه، ولا شقي من شقي إلا بإيثار دنياه.فاعتبر بمن مضى من الملوك والزهاد، أين لذة هؤلاء؟ وأين تعب أولئك؟ بقى الثواب الجزيل، والذكر الجميل للصالحين3، والقالة4 القبيحة والعقاب الوبيل للعاصين، وكأنه ما جاع من جاع، ولا شبع من شبع.والكسل عن الفضائل بئس الرفيق، وحب الراحة يورث من الندم ما يربو5 على كل لذة، فانتبه واتعب لنفسك.

واعلم أن أداء الفرائض واجتناب المحارم لازم، فمتى تعد الإنسان فالنار النار!!.ثم اعلم أن طلب الفضائل نهاية مراد المجتهدين.ثم الفضائل تتفاوت، فمن الناس من يرى الفضائل: الزهد في الدنيا، ومنهم من يراها التشاغل بالتعبد.وعلى الحقيقة، فليست الفضائل الكاملة إلا الجمع بين العلم والعمل، فإذا حصلا رفع صاحبهما إلى تحقيق معرفة الخالق سبحانه وتعالى، وحركاه إلى محبته وخشيته والشوق إليه.فتلك الغاية المقصودة، و"على قدر أهل العزم تأتي العزائم"1، وليس كل مريد2 مرادًا3، ولا كل طالب واجدًا، ولكن على العبد الاجتهاد، و"كل ميسر لما خلق له"4 والله
المستعان.
فصل: معرفة الله بالدليل أول ما ينبغي النظر فيهوأول ما ينبغي النظر فيه: معرفة الله تعالى بالدليل، ومعلوم أن من رأى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، وشاهد الأبنية المحكمة خصوصًا في جسد نفسه؛ علم أنه لا بد للصنعة من صانع، وللمبني من بان.ثم يتأمل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، وأكبر الدلائل القرآن الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله.فإذا ثبت عنده وجود الخالق -جل وعلا- وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وجب تسليم عناية5 إلى الشرع، فمتى لم يفعل؛ دل على خلل في اعتقاده.

- يجب عليه1 أن يعرف ما يجب عليه من الوضوء والصلاة والزكاة- إن كان له مال- والحج، وغير ذلك من الواجبات، فإذا عرف قدر الواجب قام بها.فينبغي لذي الهمة أن يترقى إلى الفضائل فيتشاغل بحفظ القرآن وتفسيره، وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمعرفة سيرته وسير أصحابه والعلماء بعدهم، ليتخير مرتبة الأعلى فالأعلى، ولا بد من معرفة ما يقيم به لسانه من النحو، ومعرفة طرف مستعمل من اللغة.والفقه أصل2 العلوم، والتذكير3 حلواؤها، وأعمها نفعًا، وقد رتبت في هذه المذكورات من التصانيف ما يغني عن كل ما سبق من تصانيف القدماء وغيرها بحمد الله ومنه، فأغنيتك عن تطلب الكتب، وجمع الهمم للتصنيف، وما تقف همة إلا لخساستها؛ وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون.وقد عرفت بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي؛ وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت سارت. ومتى رأيت في نفسك عجزًا فسل المنعم، أو كسلًا فالجأ إلى الموفق، فلن تنال خيرًا إلا بطاعته، ولا يفوتك خير إلا بمعصيته، فمن الذي أقبل عليه فلم يرد4 كل مراد؟ ومن الذي أعرض عنه فمضى بفائدة، أو حظي بغرض من أغراضه؟!. أو ما سمعت قول الشاعر5:والله ما جئتكم زائرًا ... إلا وجدت الأرض تطوى لِيولا ثنيت العزم عن بابكمْ ... إلا تعثرت بأذيالِي فصل: تدبير اللطيف عبده الضعيفوانظر -يا بني- إلى نفسك عند الحدود1، فتلمح: كيف حفظك1 الحدود: الحلال والحرام.

لها؟ فإنه من راعى روعي1، ومن أهمل ترك. وإني لأذكر لك بعض أحوالي، لعلك تنظر إلى اجتهادي، وتسأل الموفق لي؛ فإن أكثر الإنعام لم يكن بكسبي؛ وإنما هو من تدبير اللطيف بي، فإني أذكر نفسي ولي همة عالية، وأنا في المكتب ابن ست سنين، وأنا قرين الصبيان الكبار، قد رزقت عقلًا وافرًا في الصغر، يزيد على عقل الشيوخ، فما أذكر أني لعبت في طريق مع الصبيان قط، ولا ضحكت ضحكًا خارجًا2. حتى إني كنت، ولي سبع سنين أو نحوها أحضر رحبة الجامع، فلا أتخير حلقة مشعبذ3، بل أطلب المحدث فيتحدث بالسير4 الطويل، فأحفظ جميع ما أسمعه، وأذهب إلى البيت فأكتبه.ولقد وفق لي شيخنا أبو الفضل ابن ناصر رحمه الله، وكان يحملني إلى الشيوخ، فأسمعني "المسند"5 وغيره من الكتب الكبار، وأنا لا أعلم ما يراد مني، وضبط لي مسموعاتي إلى أن بلغت، فناولني ثبتها6، ولازمته إلى أن توفي رحمه الله فنلت7 به معرفة الحديث والنقل.- ولقد كان الصبيان ينزلون إلى دجلة، ويتفرجون على الجسر، وأنا في زمن الصغر آخذ جزءًا وأقعد حجرة8 من الناس إلى جانب الرقة9، فأتشاغل بالعلم.ثم ألهمت الزهد، فسردت الصوم، وتشاغلت بالتقلل من الطعام، وألزمت نفسي الصبر، فاستمرت، وشمرت، ولازمت وعالجت10 السهر، ولم أقنع بفن من العلوم، بل كنت أسمع الفقه والوعظ والحديث، وأتبع الزهاد.8 بعيدًا عن الناس.9 الرقة: منطقة في الجانب الغربي من بغداد مقابل دار الخلافة، سميت الرقة؛ لأنها كانت تشكل لسانًا يمتد إلى النهار، محلها الآن باب السيف، والزركجي القسم المطل على النهر.
ثم قرأت اللغة، ولم أترك أحدًا ممن يروي ويعظ، ولا غريبًا يقدم إلا وأحضره، وأتخير الفضائل.وكنت إذا عرض لي أمران أقدم في أغلب الأحوال حق الحق، فأحسن الله تدبيري وتربيتي، وأجراني على ما هو الأصلح لي، ودفع عني الأعداد والحساد ومن يكيدني، وهيأ لي أسباب العلم، وبعث إلي الكتب من حيث لا أحتسب، ورزقني الفهم، وسرعة الحفظ، والحظ وجودة التصنيف، ولم يعوزني شيئًا من الدنيا؛ بل ساق إلي من الرزق مقدار الكفاية وأزيد.ووضع لي من القبول في قلوب الخلق فوق الحد، وأوقع كلامي في نفوسهم فلا يرتابون بصحبته، وقد أسلم علي يدي نحو من1 مائتين من أهل الذمة، ولقد تاب في مجالسي أكثر من مائة ألف، وقد قطعت أكثر من عشرين ألف سالف مما يتعاناه الجهال.ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث، فينقطع نفسي في العدو لئلا أسبق، وكنت أصبح، وليس لي مأكل، وأمسي وليس لي مأكل، ما أذلني الله لمخلوق قط؛ ولكنه ساق رزقي لصيانة عرضي، ولو شرحت أحوالي لطال الشرح.وها أنا قد ترى ما آلت حالي إليه، وأنا أجمعه لك في كلمة واحدة، وهي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّه} [البقرة: 282].
فانتبه يا بني لنفسك، واندم على ما مضى من تفريطك، واجتهد في لحاق الكاملين، ما دام في الوقت سعة، واسق غصنك ما دامت فيه رطوبة، واذكر ساعتك التي ضاعت فكفى بها عظة، ذهبت لذة الكسل فيها، وفاتت مراتب الفضائل.
وقد كان السلف الصالح -رحمهم الله- يحبون جمع كل فضيلة، ويبكون على فوات واحدة منها، قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله: دخلنا على عابد مريض، وهو ينظر إلى رجليه ويبكي، فقلنا: ما لك تبكي؟ فقال: ما اغبرتا في سبيل الله. وبكى آخر فقالوا: ما يبكيك؟ فقال: علي يوم مضى ما صمته، وعلى ليلة ذهبت ما قمتها.واعلم -يا بني- أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تبسط أنفاسًا، وكل نفس خزانة؛ فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء، فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم.وقد قال رجل لعامر بن عبد قيسٍ: قف أكلمك، فقال: أمسك الشمس.وقعد قوم عند معروف رحمه الله فقال: أما تريدون أن تقوموا؛ فإن ملك الشمس يجرها لا يفتر!.وفي الحديث: "من قال: سبحان الله العظيم وبحمده؛ غرست له نخلة في الجنة" ، فانظر إلى مضيع الساعات كم يفوته من النخيل!.وقد كان السف يغتنمون اللحظات، فكان كهمس1 رحمه الله يختم القرآن كل يوم وليلة ثلاث مرات، وكان أربعون رجلًا من السلف يصلون الصبح بوضوء العشاء، وكانت رابعة العدوية تحيي الليل كله؛ فإذا طلع الفجر هجعت هجعة حقيقة، ثم قامت فزعة، وقالت لنفسها: النوم في القبور طويل.

فصل: النظر في حقيقة الدنيا ومن تفكر في الدنيا قبل أن يوجد رأى مدة طويلة؛ فإذا تفكر فيها بعد أن يخرج منها؛ رأى مدة طويلة، وعلم أن اللبث في القبور طويل، فإذا تفكر في يوم القيامة علم أنه خمسون ألف سنة، فإذا تفكر في اللبث في الجنة أو النار علم أنه لا

نهاية له؛ فإذا عاد إلى النظر في مقدار بقائه في الدنيا فرضنا ستين سنةً مثلًا؛ فإنه يمضي ثلاثين سنةً في النوم، ونحوًا من خمس عشرة في الصبا؛ فإذا حسب الباقي؛ كان أكثره في الشهوات والمطاعم والمكاسب، فإذا خلص ما للآخرة؛ وجد فيه من الرياء والغفلة كثيرًا، فبماذا تشتري الحياة الأبدية، وإنما الثمن هذه الساعات؟.

فصل: لا تيأس من الخير ولا يؤيسك -يا بني- من الخير ما مضى من التفريط؛ فإنه قد انتبه خلق كثير بعد الرقاد الطويل.فقد حدثني الشيخ أبو حكيم عن قاضي القضاة الشيخ أبي الحسن الدامغاني1 رحمه الله قال: كنت في صبوتي متشاغلًا بالبطالة غير ملتفت إلى العلم، فأحضرني أبي، أبو عبد الله2 رحمه الله وقال لي: يا بني! لست أبقى لك أبدًا، فخذ عشرين دينارًا، وأفتح لك دكان خباز وتكسب، فقلت له: ما هذا الكلام؟! قال: فافتح دكان بزاز4 بالعلم، واجتهدت، ففتح الله تعالى عَلَيَّ.وحكى لي بعض أصحاب أبي محمد الحلواني رحمه الله قال: مات أبي وأنا ابن إحدى وعشرين سنة، وكنت موصوفًا بالبطالة، فأتيت أتقاضى بعض سكان دار قد ورثتها؛ فسمعتهم يقولون: جاء المدبر، أي الربيط5، فقلت لنفسي: يقال عني هذا؛ فجئت إلى والدتي فقلت: إذا أردت طلبي فاطلبيني من مجلس الشيخ أبي الخطاب6، ولازمته؛ فما خرجت إلا إلى القضاء، فصرت قاضيًا مدة.
قلت: ورأيته أنا، وهو يفتي ويناظر. فألزم نفسك -يا بني- الانتباه عند طلوع الفجر، ولا تتحدث بحديث الدنيا؛ فقد كان السلف الصالح - رحمهم الله- لا يتكلمون في ذلك الوقت بشيء من أمور الدنيا، وقل عند انتباهك من النوم: "الحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور" 1 ، الحمد لله الذي: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيم} [الحج: 65].ثم قم إلى الطهارة، واركع سنة الفجر، واخرج إلى المسجد خاشعًا، وقل في طريقك: "اللهم إني اسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، إني لم أخرج أَشَرًا ولا بَطَرًا، ولا رياءً ولا سمعةً، خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك، وأسألك أن تجيرني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"2.واقصد الصلاة إلى يمين الإمام؛ فإذا فرغت من الصلاة فقل: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير" -عشر مرات3- ثم سبح عشرًا، واحمد عشرًا، وكبر عشرًا4، واقرأ آية الكرسي5، واسأل الله سبحانه قبول الصلاة.فإن صح لك، فاجلس ذاكرًا الله تعالى إلى أن تطلع الشمس وترتفع، ثم صل واركع ما كتب لك، وإن كان ثماني ركعات، فهو حسن.
الضحى ثماني ركعات، ثم تشاغل بمطالعة، أو نسخ إلى وقت العصر، ثم عد إلى درسك من بعد العصر إلى وقت المغرب، وصل بعد المغرب ركعتين بجزأين، فإذا صليت العشاء؛ فعد إلى دروسك. ثم اضطجع على شقك الأيمن، فسبح ثلاثًا وثلاثين، واحمد ثلاثًا وثلاثين، وكبر أربعًا وثلاثين1، وقل "اللهم قني عذابك، يوم تجمع عبادك" 2 .وإذا فتحت عينيك من النوم فاعلم أن النفس قد أخذت حظها، فقم إلى الوضوء، وصل في ظلام الليل ما أمكن، واستفتح بركعتين خفيفتين، ثم بعدهما ركعتين بجزأين من القرآن، ثم تعود إلى درس العلم، فإن العلم أفضل من كل نافلة.

فصل: العزلةُ أصل كل خيروعليك بالعزلة، فهي أصل كل خيرٍ، واحذر من جليس السوء، وليكن جلساؤك الكتب، والنظر في سير السلف.ولا تشتغل بعلم حتى تحكم ما قبله، وتلمح سير الكاملين في العلم والعمل، ولا تقنع بالدون، فقد قال الشاعر1:ولم أر في عيوب الناس شَيْئًا ... كنقص القادرين على التَّمَامِواعلم أن العلم يرفع الأراذل؛ فقد كان خلق كثير من العلماء لا نسب لهم يذكر، ولا صورة تستحسن.وكان عطاء بن أبي رباح2 أسود اللون، مستوحش الخلقة، وجاء إليه سليمان بن عبد الملك -وهو خليفة- ومعه ولداه3، فجلسوا يسألونه عن المناسك،

فحدثهم، وهو معرض عنهم بوجهه، فقال الخليفة لولديه: قوما ولا وكان الحسن مولى -أي: مملوكًا- وابن سيرين ومكحول وخلق كثير؛ وإنما شرفوا بالعلم والتقوى.
فصل: اقتنع تعزّواجتهد يا بني في صيانة عرضك من التعرض لطلب الدنيا، والذل لأهلها، واقنع تعز، فقد قيل: من قنع بالخبز والبقل لم يستعبده أحد.ومر1 أعرابي على البصرة فقال: من سيد هذه البلدة2؟ قيل له: الحسن البصري، قال: وبم3 سادهم؟ قالوا: لأنه استغنى عن دنياهم، وافتقروا إلى علمه.واعلم -يا بني- أن أبي كان موسرًا وخلف ألوفًا من المال، فلما بلغت، دفعوا لي عشرين دينارًا ودارين، وقالوا لي: هذه التركة كلها، فأخذت الدنانير، واشتريت بها كتبًا من كتب العلم، وبعت الدارين، وأنفقت ثمنهما في طلب العلم، ولم يبق لي شيء من المال، وما ذل أبوك في طلب العلم قط، ولا خرج يطوف في البلدان كغيره من الوعاظ، ولا بعث رقعة إلى أحد يطلب منه شيئًا قط، وأموره تجري على السداد {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}
فصل: متى صحّت التقوى رأيت كل خيريا بني! ومتى صحت التقوى رأيت كل خير، والمتقي لا يرائي الخلق، ولا يتعرض لما يؤذي دينه، ومن حفظ حدود الله حفظه الله. قال

فصل: سمو الهمة إلى الكمالوينبغي أن تسمو همتك إلى الكمال، فإن خلقًا وقوفًا مع الزهد، وخلقًا تشاغلوا بالعلم، وندر أقوام جمعوا بين العلم الكامل، والعمل الكامل. واعلم أني قد تصفحت التابعين ومن بعدهم، فما رأيت أحظى بالكمال من أربعة أنفس: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، وقد كانوا رجالًا؛ وإنما كانت لهم همم ضعفت عندنا، وقد كان في السلف خلق كثير لهم همم عالية، فإذا أردت أن تنظر إلى أحوالهم، فانظر في كتاب صفة الصفوة1 وإن شئت تأمل أخبار سعيد، والحسن، وسفيان، وأحمد رضي الله عنهم، فقد جمعت لكل واحد منهم كتابًا.

فصل: الحفظ رأس المال والتصرف ربحوقد علمت يا بني أني صنفت مائة كتاب1، فمنها التفسير الكبير2: عشرون مجلدًا، والتاريخ3: عشرون مجلدًا، وتهذيب المسند عشرون مجلدًا، وباقي الكتب بين كبار وصغار، يكون خمسة مجلدات، ومجلدين، وثلاثة وأربعة، وأقل وأكثر؛ كفيتك بهذه التصانيف عن استعارة الكتب، وجمع الهمم في التأليف.فعليك بالحفظ! وإنما الحفظ رأس المال والتصرف ربح، واصدق في الحالتين في الالتجاء إلى الحق سبحانه، فراع حدوده، قال الله تعالى: { إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ
فصل: من أعرض عن العمل منع البركةوإياك أن تقف مع صورة العلم دون العمل به؛ فإن الداخلين على الأمراء، والمقبلين على أهل الدنيا قد أعرضوا عن العمل بالعلم، فمنعوا البركة، والنفع به.
فصل: على قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السمَّاعونوإياك أن تتشاغل بالتعبد من غير علم، فإن خلقًا كثيرًا من المتزهدين المتصوفة ضلوا طريق الهدى، إذ عملوا بغير علم.واستر نفسك بثوبين جميلين لا يشهرانك بين أهل الدنيا برفعتهما، ولا بين المتزهدين بضعتهما.وحاسب نفسك عند كل نظرة وكلمة وخطوة؛ فإنك مسؤول عن ذلك، وعلى قدر انتفاعك بالعلم ينتفع السماعون، ومتى لم يعمل الواعظ بعلمه زلت موعظته عن القلوب، كما يزل الماء عن الحجر، فلا تعظن إلا بنية، ولا تمشين إلا بنية، ولا تأكلن لقمة إلا بنية، ومع مطالعة أخلاق السلف ينكشف لك الأمر.

فصل: عليك بقراءة هذه الكتبوعليك بكتاب "منهاج المريدين" فإنه يعلمك السلوك، واجعله جليسك ومعلمك، وتلمح كتاب "صيد الخاطر" فإنك تقع بواقعات تصلح لك دينك ودنياك، وتحفظ كتاب "جنة النظر" فإنه يكفي في تلقيح فهمك للفقه، ومتى تشاغلت بكتاب "الحدائق" أطلعك على جمهور الحديث، وإذا التفت إلى كتاب "الكشف" أبان لك مستور ما في "الصحيحين" من الحديث، ولا تشاغلن بكتب التفاسير التي
حسن المدارة... فصل: حسن المداراةوكن حسن المداراة للخق، مع شدة الاعتزال عنهم، فإن العزلة راحة من خلطاء السوء، ومبقية للوقار؛ فإن الواعظ -خاصة- ينبغي له ألا يرى متبذلًا، ولا ماشيًا في السوق، ولا ضاحكًا، ليحسن الظن به، فينتفع بوعظه، فإذا اضطررت إلى مخالطة الناس؛ فخالطهم بالحلم عنهم، فإنك إن كشفت عن أخلاقهم لم تقدر عن مداراتهم.

فصل: أدّ إلى كل ذي حقّ حقَّهُوأد إلى كل ذي حق حقه من زوجة وولد وقرابة، وانظر كل ساعة من ساعاتك، بماذا تذهب؟ فلا تودعها إلا1 أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك، وعودها أشرف ما يكون من العمل وأحسنه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك الوصول إليه، كما قيل:يا من بدنياه اشتغل ... وغره طول الأملالموت يأتي بغتة ... والقبر صندوق العملوراع عواقب الأمور؛ يهن عليك الصبر عن كل ما تشتهي وما تكره، وإن وجدت من نفسك غفلة فاحملها إلى المقابر، وذكرها قرب الرحيل.ودبر أمرك -والله المدبر- في إنفاقك، من غير تبذير، لئلا تحتاج إلى الناس، فإن حفظ المال من الدين؛ ولأن تخلف لورثتك خير من أن تحتاج إلى الناس.
فصل: إننا من أولاد أبي بكر الصديق رضي الله عنهيا بني، واعلم أننا من أولاد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأبونا القاسم بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه -وأخباره موثقة في كتاب صفة الصفوة1. ثم تشاغل سلفنا بالتجارة والبيع والشراء، فما كان من المتأخرين من رزق همة في طلب العلم غيري، وقد آل الأمر إليك، فاجتهد ألا تخيب ظني فيما رجوته فيك ولك، وقد أسلمتك إلى الله سبحانه وتعالى، وإياه أسأل أن يوفقك للعلم والعمل.وهذا قدر اجتهادي في وصيتي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله مزيد الحامدين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أ /هـ
أبني عليك بتقوى الله في السر والعلن وأعلم أن الله لا يخفى عليه عليه شي من عملك ثم إن كل شي ستراه عما قريب بعد الموت وتجنب محارم الله بالتباع سنته حتى تصحح عيبوك لتقر عينك . وإني قد وسمت لك وسما ووضعت لك رسما . إن أنت حفظته ووعيته وعملت به أفلحت في الدارين أزم وصيت أبيك وفرغ لذلك ذهنك وأشغل به قلبك ولبك وإياك وكثرة الضحك والمزا ح والهزل مع الأخوان فإن ذلك يوقع الشحناء ويذهب بالبهاء . وأعلم إن من أكرم عرضه أكرمه الناس ، ثم إني أوصيك بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه بقوله :

يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك وإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف رويناه في الترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي رواية غير الترمذي زيادة احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة واعلم أن ما اخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك وفي آخره واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا قال النووي هذا حديث عظيم الموقع انتهى
فالنجاة النجاة قبل حلول الوفاة والعجل العجل قبل هجوم الأجل فالويل كل الويل لمن فرط حتى تورط . وآثر الإمهال حتى صار في حيز الإمهمال . ثم هجم عليه مفرق الأحباب فحينئذ تنقطع ب÷ الأسباب ويسد دونه طريق الإياب . ويندم يوم لاينفع الندم .والله المستعانوعليه التكلان ولاحول ولاقوة إلا بالله . والحمد لله رب العالمين .،،،


ليست هناك تعليقات: