الاثنين، ٢ جمادى الأولى ١٤٣٠ هـ

حــق الجار

حـق الجار
{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }النساء36
مناسبة كتابة هذه الرسالة التقيت بأحد الإخوان وهو صديق لي من أيام الطفولة وسألته عن أحواله وماهو عليه من راحة مع الأهل والولد ؟ فأخبرني عما هو عليه وكان متوجعا من معاملة جارا له وهو من بني جلدته إذ إنه كلما أراد عمل إصلاح في داره تقدم جاره بشكوى للبلدية وقامت بينهما المشاكل وهو يذكر إنه لا يخشى من وعلى نفسه من جاره وإنما يخشى من وعلى أولاده أن يشتبكوا مع أولاد جاره ويصبحوا في موقف حرج . ولقد أوصيته بما ألهمني الله من ضبط النفس والتلطف لجاره بقدر المستطاع وأنا أعرف جاره لم يكن على قدر من العلم أو التقدير للآخرين وعنده شيء من الاعتداد بالنفس ولكن احترامه لجاره إنما احترام لشخصه ولقد أوصيته بما قاله الإمام الشافعي رحمه الله :
إذَا سَبَّنِي نَذْلٌ تَزَايَدْتُ رِفْعةً ........وَمَا الْعَيْبُ إلاَّ أَنْ أَكُونَ مُسَابِبُهْ
وَلَوْ لَمْ تَكْنْ نَفْسِي عَلَيَّ عَزِيزَةً .........لَمَكَّنْتُها مِنْ كُلِّ نَذْلٍ تُحَارِبُهُ
وَلَوْ أنَّني أسْعَى لِنَفْعِي وجدْتَني .........كَثِيرَ التَّواني للذِي أَنَا طَالِبُهْ
وَلكِنَّني أَسْعَى لأَنْفَعَ صَاحِبي ...وَعَارٌ عَلَى الشَّبْعَانِ إنْ جَاعَ صَاحِبُهْ
رحم الله الإمام محمد بن إدريس الشافعي لقد كان ينظر إلى الأمور بمنظار العقل والمعرفة المستمدة من كتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . والحلم سيد الأخلاق كما قيل .
قال المفسرون :{ والجار ذِى القربى } أي الذي قرب جواره { والجار الجنب } أي البعيد من الجنابة ضد القرابة ، وهي على هذا مكانية ، ويحتمل أن يراد بالجار ذي القربى من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين وبالجار الجنب الذي لا قرابة له ولو مشركاً ، أخرج أبو نعيم . يقول عنترة بن شداد وهو شاعر جاهلي :
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مثواها
والبزار من حديث جابر بن عبد الله وفيه ضعف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجيران ثلاثة : فجار له ثلاثة حقوق : حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام ، وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق واحد : حق الجوار ، وهو المشرك من أهل الكتاب " ، وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الله بن عمر أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه : أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " والظاهر أن مبنى الجوار على العرف ، وعن الحسن كما في الأدب أنه سئل عن الجار فقال : أربعين داراً أمامه وأربعين خلفه وأربعين عن يمينه وأربعين عن يساره ، وروي مثله عن الزهري . وقيل : أربعين ذراعاً ، ويبدأ بالأقرب فالأقرب ، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال : إلى أقربهما منك باباً ، وقرىء والجار ذا القربى بالنصب أي وأخص الجار ، وفي ذلك تنبيه على عظم حق الجار . وقد أخرج الشيخان عن أبي شريح الخزاعي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره " وفيما سمعه عبد الله كفاية ، وأخرجه الشيخان وأحمد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها .
{ والصاحب بالجنب } هو الرفيق في السفر أو المنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك ، وكلا القولين عن ابن عباس ، وقيل : الرفق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر وعدوا من ذلك من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس وغير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه ، واستحسن جماعة هذا القيل لما فيه من العموم . وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه الصاحب بالجنب المرأة ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالاً من الصاحب ، والعامل فيه الفعل المقدر { وابن السبيل } وهو المسافر أو الضيف . { وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم } قال مقاتل : من عبيدكم وإمائكم ، وكان كثيراً ما يوصي بهم صلى الله عليه وسلم فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال : «كان عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه» ثم الإحسان إلى هؤلاء الأصناف متفاوت المراتب حسبما يليق بكل وينبغي { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً } أي ذا خيلاء وكبر يأنف من أقاربه وجيرانه مثلاً ولا يلتفت إليهم { فَخُوراً } يعد مناقبه عليهم تطاولاً وتعاظماً ، والجملة تعليل للأمر السابق .
{ والجار ذي القربى } قيل : هو الذي قرب جواره ، والجار الجنب هو الذي بعد جواره . قال عليه الصلاة والسلام : « لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ألا . وعن أبي هريرة قيل : يا رسول الله إن فلانة تصوم النهار وتصلي الليل وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها ، أي هي سليطة ، فقال عليه الصلاة والسلام : « لا خير فيها هي في النار »
ورد حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه مرافق الجار، وهو حديث معاذ بن جبل قال: قلنا يا رسول الله، ما محق الجار ؟ قال: (إن استقراضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير سرك و هنيته وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشي منه يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله) أو كلمة نحوها.
هذا حديث جامع وهو حديث حسن، في إسناده أبو الفضل عثمان بن مطر الشيباني غير مرضي.
الحادية عشرة - قال العلماء: ألا أحاديث في إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة حتى الكافر كما بينا.
وفي الخبر قالوا: يا رسول الله أنطعمهم من لحوم النسك ؟ قال: (لا تطعموا المشركين من نسك المسلمين).
ونهيه صلى الله عليه وسلم.
عن إطعام المشركين من نسك المسلمين يحتمل النسك الواجب في الذمة الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه ولا أن يطعمه الأغنياء، فأما غير الواجب الذي يجزيه إطعام الأغنياء فجائز أن يطعمه أهل الذمة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة عند تفريق لحم الأضحية: (ابدئي بجارنا اليهودي).
روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه أذى جاره. فقال: "اطرح متاعك في الطريق". ففعل؛ وجعل الناس يمرون به ويسألونه. فإذا علموا بأذى جاره له لعنوا ذلك الجار. فجاء هذا الجار السيئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو أن الناس يلعنونه. فقال صلى الله عليه وسلم: "فقد لعنك الله قبل الناس".
الثانية عشرة - قوله تعالى: (والصاحب بالجنب) أي الرفيق في السفر.
وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين،
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة ، فقطع قضيبين أحدهما معوج، فخرج وأعطى لصاحبه القويم، فقال: كنت يا رسول الله أحق بهذا ! فقال: (كلا يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار).
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: للسفر مروءة وللحضر مروءة، فأما المروءة في السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المزاح في غير مساخط الله. ..وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد، وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل.
وبالجملة : فالإسلام دين الرحمة والترابط والتآلف يدعو أبنائه إلى المحبة وصلة الأرحام والتواصي فيما بينهم بحقوق كثيرة مطلوبة من المخاطبين بالتشريع على اختلاف مشاربهم رجالا ونساء أن يولوا أمر الدين كل اهتماماتهم ، إنه دين الرابط والرحمة ويهتم بتوثيق الصلة بين أبنائه ، ومن ذلك تلك الآيات الكريمات سالفة الذكر التي تهذب طباع البشر وتوجه الفرد إلى أن يكون عضوا فاعلا في المجتمع المسلم بحسن التعامل مع الآخرين وخاصة مع الجيران وترويض نفوسهم على الخلق الحسن . أيه الإخوة الأحبة هذا قليل من كثير مما أوصى به الإسلام بحق الجار وحسن الجوار فلنحفظ الوصية ونعلم الآخرين الحضارة والأخلاق الإسلامية الرفيعة . ولنتأسى بسيد البشر الذي قال الله فيه : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }القلم4

ليست هناك تعليقات: