الأحد، ١٨ ربيع الأول ١٤٣٠ هـ

اليقيـــن

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتدي ومن يظلل فلن تجد له وليا مرشدا .. ثم الصلاة والسلام ألاتمان على من أرسله الله رحمة للعالمين ومنقذا من أراد الله له الهداية من الضلالة إلى الهدى ودين الحق بإذنه وإلى اليقين الذي لا يخالطه شك . أما بعد . فإن اليقين كما جاء في كتب اللغة معناه في مادة يقن ( يقن ييقن وأيقن وتيقن واستيقن الأمر وبه وعليه وتحققه , اليقين إزاحة الشك الذي لا يسمع شيئا إلا أيقن به رجل يقن بالشيء مولع به اليقين والذي لا يسمع إلا أيقن به اليقين إزاحة الشك وتحقيق الأمر ) ا . هـ .. وفي القرآن

{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }

واستمِرَّ في عبادة ربك مدة حياتك حتى يأتيك اليقين, وهو الموت. وامتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه, فلم يزل دائبًا في عبادة الله, حتى أتاه اليقين من ربه ..ت..م

وهذا بخلاف ما سمعنا عن بعض الفرق التي فسرت هذه الآية بان يعبد ربه العالم فيهم حتى يقال إنه من أصحاب اليقين وهنا تسقط عنه التكاليف ويصبح منها في حل كما صوره لهم الشيطان عياذا بالله من إتباع الهوى ..

{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ }

إن هذا الذي قصصناه عليك -أيها الرسول- لهو حق اليقين الذي لا مرية فيه

وإنه لحق ثابت ويقين لا شك فيه..ت..م.

{حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ }

حتى جاءنا الموت, ونحن في تلك الضلالات والمنكرات..ت..م.

{كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ }

ما هكذا ينبغي أن يلهيكم التكاثر بالأموال, لو تعلمون حق العلم لانزجرتم, ولبادرتم إلى إنقاذ أنفسكم من الهلاك..ت..م.

{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ }

ثم لتبصرُنَّها دون ريب..ت..م,

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله عن منزلة اليقين : هو من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد وبه تفاصيل العارفين وفيه تنافس المتنافسون وإليه شمر العاملون وعمل القوم إنما كان عليه إشاراتهم كلها إليه وإذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهما حصول الإمامة في الدين قال الله تعال{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }السجدة24ى وخص سبحانه أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين فقال وهو أصدق القائلين {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ }{أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }البقرة4 وأخبر عن أهل النار أنهم لم يكونوا من أهل اليقين فقال تعلى : {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ }الجاثية32 فاليقين روح أعمال القلوب التي هي روح أعمال الجوارح وهو حقيقة الصديقين وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره .

التوكل ثمرة اليقين

والتوكل ثمرته ونتيجته ولهذا حسن اقتران الهدى به قال تعالى : {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ }النمل79 فالحق هو اليقين ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }إبراهيم12 واخبر عن أهل النار أنهم لم يكونوا من أهل اليقين فقال تعالى :

{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ }الجاثية32 فاليقين روح أعمال القلوب التي هي روح أعمال الجوارح وهو حقيقة الصديقية وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره .

التوكل ثمرة اليقين

والتوكل ثمرته ونتيجته ولهذا حسن اقتران الهدى به قال تعالى : {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ }النمل79

فالحق هو اليقين .

ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراق وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط وهم وغم فامتلأ محبة لله وخوفا منه ورضا به وشرا له وتوكلا عليه وإنابة إليه فهو مادة جميع المقامات والحامل لها وقالت رسل الله {وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ }إبراهيم12

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل ) أخرجه أحمد في الزهد وحسنه الألباني

وقال صلى الله عليه وسلم ( نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد ويهلك آخرها بالبخل والأمل ) رواه ابن أبي الدنيا وحسنه الألباني

الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل ربه اليقين

فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه ( اللهم اقسم لنا ن خشيتك ما تحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا ما أحييتنا واجعله الوارث من واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ) أخرجه الترمذي وحسنه الألباني

رجحان العمل وحصول الرضا باليقين

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يعيبون سهر الحمقى وصيامهم ؟! ولمثقال ذرة من بر من صاحب تقوى ويقين أفضل وأرجح وأعظم من أمثال الجبال عبادة من المغترين .. أخرجه أحمد .

وصح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : إن الروح والفرج في اليقين والرضا وإن الغم والحزن من الشك والسخط .

وكان عطاء الخرساني لا يقوم من مجلسه حتى يقول : اللهم هب لنا يقينا بك حتى تهون علينا مصيبات الدنيا وحتى نعلم أنه لا يصيبنا إلا ما كتبت علينا ولا يأتينا من هذا الرزق إلا ما قسمت لنا به

عباد الرحمن ، اعلموا أنكم تعملون في أيام قصار لأيام طوال في دار زوال لدار مقام ودار حز : وقال بلال بن سعيد ونصب لدار نعيم وخلد ومن لم يعمل على اليقين فلا يغتر أي أن الأفعال تدل على ضعف اليقين وقال رحمه الله : كانا قوم لا يعقلون وكانا قوم لا يوقنون ، وقال رحمه الله : عباد الرحمن أما ما وكلكم الله به فتضيعونه وأما ما تكفل لكم به فتطلبونه ، ما هكذا بعث الله عباده الموقنين ذوو عقول في طلب الدنيا وبله عما خلقتم له ؟ فكيف ترجون رحمة الله بما تؤدون من طاعة الله عز وجل فكذلك أشفقوا من عذاب الله بما تنتهكون من معاصي الله عز وجل واعلم –رعاك الله أنه على قدر قربك من التقوى تدرك من اليقين ، ولا يسكن اليقين قلبا فيه سكون إلى غير الله تعالى,

أمثلة عطرة على علو الهمة في اليقين

إن من يقلب صفحات التاريخ يجده يزخر بأمثلة عطرة على علو الهمة في اليقين والثقة بالله ومنها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام كان خلقه اليقين فكل مواقفه عليه السلام تدل على ذلك ففي محاجته لقومه كان خلقه اليقين

{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ }{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }{الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ }

نعم كيف يخاف من عنده !! هذا اليقين . ويتجلى يقينه وتوكله وثقته بربه حينما ألقوه في النار وجاءه جبريل يقول : ألك حاجة ؟ فيجيبه : أما إليك فلا , ثم يردد نشيده العلوي( حسبنا الله ونعم الوكيل ) إن كل مواقف الخليل ملؤه اليقين ألقى طفله الرضيع وزوجه في البرية هم بذبح ولده فصلوات الله عليه وسلامه .

الرسول صلى الله عليه وسلم القمة في علو الهم

ومن مثل الرسول صلى الله عليه وسلم ينما يشتد عليه الكرب يبدو يقينه مثالا يحتذى ولا كرب أشد من ساعة الهجرة

{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }التوبة40 حين يقول له الصديق : لو أن أحدهم نظر تحت قدمه لأبصرنا والرسول صلى الله عليه وسلم يهدي من روعه بقوله ( يا بأ بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهم ) ثم أنظر إلى يقينه بربه بعد أن جرى له ما يثبت لذكره الوالدان في رحلته إلى الطائف وهو يقول لملك الجبال الذي عرض عليه الانتقام من المشركين ( بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا )

صيحة عمير بن الحمام .. منارة من منارات اليقين

فإنه لما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض , قال : بخ بخ قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ( ما حملك على قولك بخ بخ ؟ قال لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها . قال صلى الله عليه وسلم : فإنك من أهلها ) فاخرج تمرات كن في جيبه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة فرمى بما كن معه ثم قاتل العدو حتى قتل رحمه الله وألحقنا به في جنات النعيم . ورزقنا يقينا لا يتزحزح وقرة عين لا تنفد اللهم آمين .. ا-هـ

من هناء يتبين لك عزيزي القارئ إن اليقين كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : حقيقة اليقين الإيمان كله والصبر نصف الإيمان ، ولو دفع اليقين في القلب كما ينبغي لا انبعثت الجوارح كلها . وأشهد الله الذي خلق كل شيء وله ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى وإني موقن بأن الله حق وإن النبيين حق وإن القرآن حق وإن الجنة حق والنار حق والموت حق والحساب حق والقيامة حق و ومجازات كل بعمله والصراط حق وكل ما تضمنه القرآن من ألفه إلى يائه حق لا ريب فيه أتعبد الله بذلك وأشهد الله وخلقه على ذلك رجاء أن تنفعني هذه الشهادة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وإن كان ليس هناك مني قلب سليم إلا إني تائب لله من جميع ذنوبي راجيا من الله قبول توبي والعفو عني يوم أكون رهين عملي الذي قدمت . وإني أستغفر الله وأتوب إليه ولا حول ولا قوة إلا بالله .. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم ..،،،