الاثنين، ٢ جمادى الأولى ١٤٣٠ هـ

حــق الجار

حـق الجار
{وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }النساء36
مناسبة كتابة هذه الرسالة التقيت بأحد الإخوان وهو صديق لي من أيام الطفولة وسألته عن أحواله وماهو عليه من راحة مع الأهل والولد ؟ فأخبرني عما هو عليه وكان متوجعا من معاملة جارا له وهو من بني جلدته إذ إنه كلما أراد عمل إصلاح في داره تقدم جاره بشكوى للبلدية وقامت بينهما المشاكل وهو يذكر إنه لا يخشى من وعلى نفسه من جاره وإنما يخشى من وعلى أولاده أن يشتبكوا مع أولاد جاره ويصبحوا في موقف حرج . ولقد أوصيته بما ألهمني الله من ضبط النفس والتلطف لجاره بقدر المستطاع وأنا أعرف جاره لم يكن على قدر من العلم أو التقدير للآخرين وعنده شيء من الاعتداد بالنفس ولكن احترامه لجاره إنما احترام لشخصه ولقد أوصيته بما قاله الإمام الشافعي رحمه الله :
إذَا سَبَّنِي نَذْلٌ تَزَايَدْتُ رِفْعةً ........وَمَا الْعَيْبُ إلاَّ أَنْ أَكُونَ مُسَابِبُهْ
وَلَوْ لَمْ تَكْنْ نَفْسِي عَلَيَّ عَزِيزَةً .........لَمَكَّنْتُها مِنْ كُلِّ نَذْلٍ تُحَارِبُهُ
وَلَوْ أنَّني أسْعَى لِنَفْعِي وجدْتَني .........كَثِيرَ التَّواني للذِي أَنَا طَالِبُهْ
وَلكِنَّني أَسْعَى لأَنْفَعَ صَاحِبي ...وَعَارٌ عَلَى الشَّبْعَانِ إنْ جَاعَ صَاحِبُهْ
رحم الله الإمام محمد بن إدريس الشافعي لقد كان ينظر إلى الأمور بمنظار العقل والمعرفة المستمدة من كتاب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . والحلم سيد الأخلاق كما قيل .
قال المفسرون :{ والجار ذِى القربى } أي الذي قرب جواره { والجار الجنب } أي البعيد من الجنابة ضد القرابة ، وهي على هذا مكانية ، ويحتمل أن يراد بالجار ذي القربى من له مع الجوار قرب واتصال بنسب أو دين وبالجار الجنب الذي لا قرابة له ولو مشركاً ، أخرج أبو نعيم . يقول عنترة بن شداد وهو شاعر جاهلي :
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مثواها
والبزار من حديث جابر بن عبد الله وفيه ضعف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجيران ثلاثة : فجار له ثلاثة حقوق : حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام ، وجار له حقان : حق الجوار وحق الإسلام ، وجار له حق واحد : حق الجوار ، وهو المشرك من أهل الكتاب " ، وأخرج البخاري في الأدب عن عبد الله بن عمر أنه ذبحت له شاة فجعل يقول لغلامه : أهديت لجارنا اليهودي أهديت لجارنا اليهودي؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه " والظاهر أن مبنى الجوار على العرف ، وعن الحسن كما في الأدب أنه سئل عن الجار فقال : أربعين داراً أمامه وأربعين خلفه وأربعين عن يمينه وأربعين عن يساره ، وروي مثله عن الزهري . وقيل : أربعين ذراعاً ، ويبدأ بالأقرب فالأقرب ، فعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال : إلى أقربهما منك باباً ، وقرىء والجار ذا القربى بالنصب أي وأخص الجار ، وفي ذلك تنبيه على عظم حق الجار . وقد أخرج الشيخان عن أبي شريح الخزاعي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره " وفيما سمعه عبد الله كفاية ، وأخرجه الشيخان وأحمد من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها .
{ والصاحب بالجنب } هو الرفيق في السفر أو المنقطع إليك يرجو نفعك ورفدك ، وكلا القولين عن ابن عباس ، وقيل : الرفق في أمر حسن كتعلم وتصرف وصناعة وسفر وعدوا من ذلك من قعد بجنبك في مسجد أو مجلس وغير ذلك من أدنى صحبة التأمت بينك وبينه ، واستحسن جماعة هذا القيل لما فيه من العموم . وأخرج عبد بن حميد عن علي كرم الله تعالى وجهه الصاحب بالجنب المرأة ، والجار متعلق بمحذوف وقع حالاً من الصاحب ، والعامل فيه الفعل المقدر { وابن السبيل } وهو المسافر أو الضيف . { وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم } قال مقاتل : من عبيدكم وإمائكم ، وكان كثيراً ما يوصي بهم صلى الله عليه وسلم فقد أخرج أحمد والبيهقي عن أنس قال : «كان عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغرها في صدره وما يفيض بها لسانه» ثم الإحسان إلى هؤلاء الأصناف متفاوت المراتب حسبما يليق بكل وينبغي { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً } أي ذا خيلاء وكبر يأنف من أقاربه وجيرانه مثلاً ولا يلتفت إليهم { فَخُوراً } يعد مناقبه عليهم تطاولاً وتعاظماً ، والجملة تعليل للأمر السابق .
{ والجار ذي القربى } قيل : هو الذي قرب جواره ، والجار الجنب هو الذي بعد جواره . قال عليه الصلاة والسلام : « لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه ألا . وعن أبي هريرة قيل : يا رسول الله إن فلانة تصوم النهار وتصلي الليل وفي لسانها شيء يؤذي جيرانها ، أي هي سليطة ، فقال عليه الصلاة والسلام : « لا خير فيها هي في النار »
ورد حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه مرافق الجار، وهو حديث معاذ بن جبل قال: قلنا يا رسول الله، ما محق الجار ؟ قال: (إن استقراضك أقرضته وإن استعانك أعنته وإن احتاج أعطيته وإن مرض عدته وإن مات تبعت جنازته وإن أصابه خير سرك و هنيته وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها ولا تستطل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسد عليه الريح إلا بإذنه وإن اشتريت فاكهة فأهد له منها وإلا فأدخلها سرا لا يخرج ولدك بشي منه يغيظون به ولده وهل تفقهون ما أقول لكم لن يؤدي حق الجار إلا القليل ممن رحم الله) أو كلمة نحوها.
هذا حديث جامع وهو حديث حسن، في إسناده أبو الفضل عثمان بن مطر الشيباني غير مرضي.
الحادية عشرة - قال العلماء: ألا أحاديث في إكرام الجار جاءت مطلقة غير مقيدة حتى الكافر كما بينا.
وفي الخبر قالوا: يا رسول الله أنطعمهم من لحوم النسك ؟ قال: (لا تطعموا المشركين من نسك المسلمين).
ونهيه صلى الله عليه وسلم.
عن إطعام المشركين من نسك المسلمين يحتمل النسك الواجب في الذمة الذي لا يجوز للناسك أن يأكل منه ولا أن يطعمه الأغنياء، فأما غير الواجب الذي يجزيه إطعام الأغنياء فجائز أن يطعمه أهل الذمة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة عند تفريق لحم الأضحية: (ابدئي بجارنا اليهودي).
روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه أذى جاره. فقال: "اطرح متاعك في الطريق". ففعل؛ وجعل الناس يمرون به ويسألونه. فإذا علموا بأذى جاره له لعنوا ذلك الجار. فجاء هذا الجار السيئ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو أن الناس يلعنونه. فقال صلى الله عليه وسلم: "فقد لعنك الله قبل الناس".
الثانية عشرة - قوله تعالى: (والصاحب بالجنب) أي الرفيق في السفر.
وأسند الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين،
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم غيضة ، فقطع قضيبين أحدهما معوج، فخرج وأعطى لصاحبه القويم، فقال: كنت يا رسول الله أحق بهذا ! فقال: (كلا يا فلان إن كل صاحب يصحب آخر فإنه مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار).
وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: للسفر مروءة وللحضر مروءة، فأما المروءة في السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المزاح في غير مساخط الله. ..وأما المروءة في الحضر فالإدمان إلى المساجد، وتلاوة القرآن وكثرة الإخوان في الله عز وجل.
وبالجملة : فالإسلام دين الرحمة والترابط والتآلف يدعو أبنائه إلى المحبة وصلة الأرحام والتواصي فيما بينهم بحقوق كثيرة مطلوبة من المخاطبين بالتشريع على اختلاف مشاربهم رجالا ونساء أن يولوا أمر الدين كل اهتماماتهم ، إنه دين الرابط والرحمة ويهتم بتوثيق الصلة بين أبنائه ، ومن ذلك تلك الآيات الكريمات سالفة الذكر التي تهذب طباع البشر وتوجه الفرد إلى أن يكون عضوا فاعلا في المجتمع المسلم بحسن التعامل مع الآخرين وخاصة مع الجيران وترويض نفوسهم على الخلق الحسن . أيه الإخوة الأحبة هذا قليل من كثير مما أوصى به الإسلام بحق الجار وحسن الجوار فلنحفظ الوصية ونعلم الآخرين الحضارة والأخلاق الإسلامية الرفيعة . ولنتأسى بسيد البشر الذي قال الله فيه : {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }القلم4

الأربعاء، ١٩ ربيع الآخر ١٤٣٠ هـ

الغيبــة والنميمــة

{ قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }الحجرات1
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشريعته لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين؛ عسى أن يكون المهزوء به منهم خيرًا من الهازئين, ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات; عسى أن يكون المهزوء به منهنَّ خيرًا من الهازئات, ولا يَعِبْ بعضكم بعضًا, ولا يَدْعُ بعضكم بعضًا بما يكره من الألقاب, بئس الصفة والاسم الفسوق, وهو السخرية واللمز والتنابز بالألقاب, بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه, ومن لم يتب من هذه السخرية واللمز والتنابز والفسوق فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب هذه المناهي. التفسير الميسر .
الغيبة : هي ذكرك أخاك بما يكره في غيبته
النميمة : هي نقل الكلام لقصد الإفساد بين الناس وهى سبب في تقطيع الأرحام والعداوة والشحناء بين الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله
وقد أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحدد مفهوم الغيبة لأصحابه على طريقته في التعليم بالسؤال والجواب، فقال لهم: "أتدرون ما الغيبة ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره. قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".
الهمز واللمز والغيبة والنميمة أخلاق ملا خلق له قال رسول الله: ( إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار! ) صحيح مسلم
وقد قيل : إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب فهنيئاً لمن كف لسانه إلا من خير، فإنك بذلك تغلب الشيطان، ومن كثر كلامه كثر سقطة، ومن كثر سقطة كثرت ذنوبه {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }ق18
وقال أكثم بن صيفي لبنيه: إياكم والنميمة ! فإنها نار محرقة، وإن النمام ليعمل في ساعة مالا يعمل الساحر في شهر.
أخذه بعض الشعراء فقال:
إن النميمة نار ويك محرقة *** ففر عنها وجانب من تعاطاها
ولذلك قيل: نار الحقد لا تخبو. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: [ لا يدخل الجنة نمام ]. وقال: [ ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيها ]. وقال عليه الصلاة والسلام: [ من شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه ].
وقال كعب الأحبار: أصاب بني إسرائيل قحط، فخرج بهم موسى عليه السلام ثلاث مرات يستسقون فلم يسقوا فقال موسى: [ إلهي عبادك ] فأوحى الله إليه: [ إني لا أستجيب لك ولا لمن معك لان فيهم رجلا نماما، قد أصر على النميمة ].
فقال موسى: [ يا رب من هو حتى نخرجه من بيننا ] ؟ فقال: [ يا موسى أنهاك عن النميمة وأكون نماما ] قال: فتابوا بأ جمعهم، فسقوا. والنميمة من الكبائر، لا خلاف في ذلك، حتى قال الفضيل بن عياض: ثلاث تهد العمل الصالح ويفطرون الصائم، وينقضن الوضوء: الغيبة، والنميمة، والكذب. وقال قتادة : ذكر لنا أنّ عذاب القبر من ثلاثة : ثلثٌ من البول . وثلثٌ من الغيبة ، وثلثٌ من النميمة . وسبب نزول هذه الآية ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصف مساءَلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت قال عمر : يا رسول الله أيكون معي عقلي : ؟ قال : « نعم » قال . كُفيت إذن ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قوله عز وجل : { ومثل كلمة خبيثة } فيها قولان : أحدهما : أنها الكفر . الثاني : أنها الكافر نفسه . { كشجرة خبيثةٍ } فيها ثلاثة أقاويل : أحدها : أنها شجرة الحنظل ، قاله أنس بن مالك . الثاني : أنها شجرة لم تخلف ، قاله ابن عباس . الثالث : أنها الكشوت . { اجتثت من فوق الأرض } أي اقتلعت من أصلها ، ومنه قول لقيط :
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ... فمن رأى مِثل ذا يوماً ومَنْ سمعا
{ ما لها من قرار } فيه وجهان : أحدهما : ما لها من أصل .
الثاني : ما لها من ثبات . وتشبيه الكلمة الخبيثة بهذه الشجرة التي ليس لها أصل يبقى ، ولا ثمر يجتنى أن الكافر ليس له عمل في الأرض يبقى ، ولا ذكر في السماء يرقى . ولابد من التنديد بأصحاب الصفات التالية كثرة الحلف بالكذب، المهانة، الهمزة النميمة، الغيبة، البخل، الاعتداء، غشيان الذنوب، الغلظة والجفاء، الشهرة بالشر .
كذلك إنتقاص الناس والنظر إليهم بعين الازدراء والاستصغار مما يجعل الناس يقتل بعضهم بعضا وينهب بعضهم بعضا وتصبح الحياة فوضوية لاستقرار لها ولا هدوء فتجنب كل هذه الأخلاق المشينة لا يقدم عليها من سما بخلقه عن سفاسف الأمور وترفع بنفسه عن السقوط في أوحال الرذيلة من الدسائس وإشعال الفتن بين المسلمين . وإني والله لأعجب من كثير من الناس ممن نصبوا أنفسهم للحكم على الآخرين ومن جرأتهم في تسليط ألسنتهم القذرة في الوقيعة في أعراض الآخرين وخاصة إذا كان ذلك الآخر ممن ينسب إلى العلم أو رجالات الحسبة وإني لأوعز ذلك إلى مرض في قلوبهم .
وقيل : إن الغيبة هي شهوة الهدم للآخرين، هي شهوة النهش في أعراض الناس وكراماتهم وحرماتهم وهم غائبون. إنها دليل على الخسة والجبن، لأنها طعن من الخلف، وهي مظهر من مظاهر السلبية، فإن الاغتياب جهد من لا جهد له. وهي معول من معاول الهدم، لأن هواة الغيبة، قلما يسلم من ألسنتهم أحد بغير طعن ولا تجريح.
وعند البخاري من حديث أَنَسٍ رضي الله عنه أن رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : ( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا ، فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ : تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ ) وتفسيره أَن يمنَعه من الظلم إِن وجده ظالِماً ، وإِن كان مظلوماً أَعانه على ظالمه ،
قال ابن اسحاق : ثم أن قريشاً اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم ، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم سفائهم فكذبوه وآذوه ، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون .. مر بهم صلى الله عليه وسلم طائفاً بالبيت فغمزوه ببعض القول فعرف ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم ثم مر بهم ثانية فغمزوه ، ثم الثالثة بمثلها فوقف ثم قال : أتسمعون يامعشر قريش ، أما والذي نفسي بيده لقد جئتكم بالذبح ، فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع (26) .
وقد وصف الله همزهم وغمزهم به صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه - : (( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون )) سورة القلم ، آية 51 .
وهكذا الدعاة إلى شرعه وسنته ، يلاقون الاستهزاء والسخرية وتلك سنة باقية إلى يوم الدين .
ولهذا فإن عقبة الاستهزاء تصدم بعض الدعاة وآخر تفت في عضده وآخر تقهقره وتجنبه وآخر لا تزيده إلا صلابة في الحق وإصراراً على الاستمرار في منهج الإصلاح ومقاومة الباطل وهذا النمط الأخير هو الذي تحتاجه الأمة ، وهو زاد الدعوة إلى دين الله الحق لأن صاحبه ينظر إلى أقوال الأنبياء والرسل - كما مرت بك آنفاً - فيعلم ويستيقن أنه وارث لتركتهم وهم لم يخلفوا للناس إلا دعوة الخير والتوحيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتثاث الفساد من الأرض ، ولهذا لا يعبأ بهذا الاستهزاء ولو كدر خاطره فإنه من الأذى الذي لا بد منه في سبيل الدعوة ، ولهذا فقد ربح بيعه لا يقيل ولا يستقيل .
الفصل الرابع .صور من مظاهر الاستهزاء
تتنوع مظاهر الاستهزاء حسب ما يصدر من المستهزئ أو الساخر فقد تكون السخرية بالكلام ، وهذا النوع أكثر من أنواع الاستهزاء قديماً وحديثاً . وقد تكون السخرية بالإشارة غمزاً بالعين ، أو إخراج اللسان وقد تكون بحركة اليد أ . هـ
ومن الوثائق الدفاعية عن علما السلفية ما يلي : الله سبحانه يقول في كتابه العظيم وهو المرجع: ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ) [النساء:59] [ ثم قال كلاماً غير واضح] فالقرآن فيه الكفاية، والسنة فيها، ولهذا أمر الله بالرد إليهما، ففيهما الكفاية والهداية: ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) .
فلا يجوز التعصب لا لزيد ولا لعمرو، يجب على طلبة العلم وعلى العلماء وعلى العامة المؤمنين الإنصاف لأهل الحق، وألا ينفّروا من فلان ولا من فلان، عليهم أن ينفّروا مما حرم الله، ينفّروا من المعاصي عليهم أن ينفروا من المعاصي ويحذروا منها، من الزنا ومن عقوق الوالدين ومن الربا ومن الغيبة ومن النميمة ، ومن ترك الصلاة، ومن ترك صلاة الجماعة إلى غيرها من المعاصي.
الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله
[ المسألة الثالثة: الفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله ].
المقصود: هو قول عوف بن مالك حين قال: لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب يخبره، نقول: هذه ليست من الغيبة والنميمة، وإنما هذه نصيحة، فالذي يقع في المعصية مرتكباً لها ويعرف أنه قاصد لذلك فيبلغ أمره إلى ولي الأمر؛ حتى يردعه ويمنعه، ويقيم عليه الحد الذي يستحقه، ولا يكون ذلك من باب النميمة وإنما هي نصيحة. فذهب عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ }التوبة65 فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق (3)، قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الحجارة لتنكب رجليه .
وبالجملة : فإن الغيبة والنميمة خلقان مذمومان ومعولان هدامان لايستعملهما إلا أراذل الناس أما كرامهم فهم يترفعون بأنفسهم عن ذلك الخلق الدنيء .والله المستعان وهو حسبي ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الأخيار مادام الليل والنهار ..،،،

الأحد، ٩ ربيع الآخر ١٤٣٠ هـ

الصبـــر

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ }البقرة155
ولنختبرنكم بشيء يسير من الخوف، ومن الجوع, وبنقص من الأموال بتعسر الحصول عليها, أو ذهابها, ومن الأنفس: بالموت أو الشهادة في سبيل الله, وبنقص من ثمرات النخيل والأعناب والحبوب, بقلَّة ناتجها أو فسادها. وبشِّر -أيها النبي- الصابرين على هذا وأمثاله بما يفرحهم ويَسُرُّهم من حسن العاقبة في الدنيا والآخرة .التفسير الميسر
أسطر هذه الكلمات بعد الحدث الذي حصل للأبناء ( عبد الله وأنس وعبد الرحمن ) رحمهم الله تعالى عوضهم بشبابهم الجنة وأن يخلف على أهلهم بخير منهم ويربط على قلوبهم ويلهمهم الصبر والسلوان .
الصبر لغة: الحبس والكف، قال تعالى: ((واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي...)) الآية، أي احبس نفسك معهم.
واصطلاحاً: حبس النفس على فعل شيء أو تركه ابتغاء وجه الله قال تعالى: ((والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم)).
ذات يوم مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبر، فرأى امرأة جالسة إلى جواره وهي تبكي على ولدها الذي مات، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقي الله واصبري). فقالت المرأة: إليك عني، فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي.
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تكن المرأة تعرفه، فقال لها الناس: إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسرعت المرأة إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم تعتذر إليه، وتقول: لَمْ أعرفك. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) [متفق عليه]. أي يجب على الإنسان أن يصبر في بداية المصيبة.
***
أسلم عمار بن ياسر وأبوه ياسر وأمه سمية -رضي الله عنهم- وعلم الكفار بإسلامهم، فأخذوهم جميعًا، وظلوا يعذبونهم عذابًا شديدًا، فلما مرَّ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، قال لهم: (صبرًا آل ياسر! فإن موعدكم الجنة)
[الحاكم]. وصبر آل ياسر، وتحملوا ما أصابهم من العذاب، حتى مات الأب والأم من شدة العذاب، واستشهد الابن بعد ذلك في إحدى المعارك؛ ليكونوا جميعًا من السابقين إلى الجنة، الضاربين أروع الأمثلة في الصبر وتحمل الأذى.
ما هو الصبر؟
الصبر هو أن يلتزم الإنسان بما يأمره الله به فيؤديه كاملا، وأن يجتنب ما ينهاه عنه، وأن يتقبل بنفس راضية ما يصيبه من مصائب وشدائد، والمسلم يتجمل بالصبر، ويتحمل المشاق، ولا يجزع، ولا يحزن لمصائب الدهر ونكباته. يقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة: 153].
الصبر خلق الأنبياء:
ضرب أنبياء الله -صلوات الله عليهم- أروع الأمثلة في الصبر وتحمل الأذى من أجل الدعوة إلى الله، وقد تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاق في سبيل نشر الإسلام، وكان أهل قريش يرفضون دعوته للإسلام ويسبونه، ولا يستجيبون له، وكان جيرانه من المشركين يؤذونه ويلقون الأذى أمام بيته، فلا يقابل ذلك إلا بالصبر الجميل. يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وتحمله للأذى: (كأني أنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي (يُشْبِه) نبيًّا من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ضربه قومه فأدموه (أصابوه وجرحوه)، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) [متفق عليه].
وقد وصف الله -تعالى- كثيرًا من أنبيائه بالصبر، فقال تعالى: {وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين . وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين} [الأنبياء: 85-86].
وقال الله تعالى: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل} [الأحقاف: 35]. وأولو العزم من الرسل هم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد -عليهم صلوات الله وسلامه-.
وقال تعالى: {ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وآذوا في سبيلي حتى أتاهم نصرنا} [الأنعام: 34].
وقال تعالى عن نبيه أيوب: {إنا وجدناه صابرًا نعم العبد إنه أواب}
[ص: 44]، فقد كان أيوب -عليه السلام- رجلا كثير المال والأهل، فابتلاه الله واختبره في ذلك كله، فأصابته الأمراض، وظل ملازمًا لفراش المرض سنوات طويلة، وفقد ماله وأولاده، ولم يبْقَ له إلا زوجته التي وقفت بجانبه صابرة محتسبة وفيةً له.
وكان أيوب مثلا عظيمًا في الصبر، فقد كان مؤمنًا بأن ذلك قضاء الله، وظل لسانه ذاكرًا، وقلبه شاكرًا، فأمره الله أن يضرب الأرض برجله ففعل، فأخرج الله له عين ماء باردة، وأمره أن يغتسل ويشرب منها، ففعل، فأذهب الله عنه الألم والأذى والمرض، وأبدله صحة وجمالا ومالا كثيرًا، وعوَّضه بأولاد صالحين جزاءً له على صبره، قال تعالى: {ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب} [ص: 43].
فضل الصبر:
أعد الله للصابرين الثواب العظيم والمغفرة الواسعة، يقول تعالى: {وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون . أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155-157]. ويقول: {إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر: 10].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما أُعْطِي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر)
[متفق عليه]. ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نَصَبٍ (تعب) ولا وَصَبٍ (مرض) ولا هَمّ ولا حَزَنٍ ولا أذى ولا غَمّ حتى الشوكة يُشَاكُها إلا كفَّر الله بها من خطاياه) [متفق عليه].
أنواع الصبر:
الصبر أنواع كثيرة، منها: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على المرض، والصبر على المصائب، والصبر على الفقر، والصبر على أذى الناس.. إلخ.
الصبر على الطاعة: فالمسلم يصبر على الطاعات؛ لأنها تحتاج إلى جهد وعزيمة لتأديتها في أوقاتها على خير وجه، والمحافظة عليها. يقول الله -تعالى- لنبيه صلى الله عليه وسلم: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} [الكهف: 28]. ويقول تعالى: {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [طه: 132].
الصبر عن المعصية: المسلم يقاوم المغريات التي تزين له المعصية، وهذا يحتاج إلى صبر عظيم، وإرادة قوية، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل المهاجرين من هجر ما نهي الله عنه، وأفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات
الله -عز وجل-) [الطبراني].
الصبر على المرض: إذا صبر المسلم على مرض ابتلاه الله به، كافأه الله عليه بأحسن الجزاء، قال صلى الله عليه وسلم: (من أصيب بمصيبة في ماله أو جسده، وكتمها ولم يشْكُهَا إلى الناس، كان حقًّا على الله أن يغفر له).
[الطبراني].
وصبر المسلم على مرضه سبب في دخوله الجنة، فالسيدة أم زُفَر -رضي الله عنها- كانت مريضة بالصَّرَع، فطلبت من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله لها بالشفاء. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيكِ). فاختارت أن تصبر على مرضها ولها الجنة في الآخرة. [متفق عليه]. ويقول تعالى في الحديث القدسي: (إذا ابتليتُ عبدي بحبيبتيه (عينيه) فصبر، عوضتُه منهما الجنة) [البخاري].
الصبر على المصائب: المسلم يصبر على ما يصيبه في ماله أو نفسه أو
أهله. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صَفِيهُ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة) [البخاري]. وقد مرَّت أعرابية على بعض الناس، فوجدتهم يصرخون، فقالت: ما هذا؟ فقيل لها: مات لهم إنسان. فقالت: ما أراهم إلا من ربهم يستغيثون، وبقضائه يتبرمون (يضيقون)، وعن ثوابه يرغبون (يبتعدون).
وقال الإمام علي: إن صبرتَ جرى عليك القلم وأنتَ مأجور (لك أجر وثواب)، وإن جزعتَ جرى عليكَ القلم وأنت مأزور (عليك وزر وذنب).
الصبر على ضيق الحياة: المسلم يصبر على عسر الحياة وضيقها، ولا يشكو حاله إلا لربه، وله الأسوة والقدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه أمهات المؤمنين، فالسيدة عائشة -رضي الله عنها- تحكي أنه كان يمر الشهران الكاملان دون أن يوقَد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نار، وكانوا يعيشون على التمر والماء. [متفق عليه].
الصبر على أذى الناس: قال صلى الله عليه وسلم: (المسلم إذا كان مخالطًا الناس ويصبر على أذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم) [الترمذي].
الصبر المكروه:
الصبر ليس كله محمودًا، فهو في بعض الأحيان يكون مكروهًا. والصبر المكروه هو الصبر الذي يؤدي إلى الذل والهوان، أو يؤدي إلى التفريط في الدين أو تضييع بعض فرائضه، أما الصبر المحمود فهو الصبر على بلاء لا يقدر الإنسان على إزالته أو التخلص منه، أو بلاء ليس فيه ضرر بالشرع. أما إذا كان المسلم قادرًا على دفعه أو رفعه أو كان فيه ضرر بالشرع فصبره حينئذ لا يكون مطلوبًا.
قال الله -تعالى-: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا} [النساء: 97].
الأمور التي تعين على الصبر:
* معرفة أن الحياة الدنيا زائلة لا دوام لها.
* معرفة الإنسـان أنه ملْكُ لله -تعالى- أولا وأخيرًا، وأن مصيره إلى الله تعالى.
* التيقن بحسن الجزاء عند الله، وأن الصابرين ينتظرهم أحسن الجزاء من الله، قال تعالى: {ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 96].
* اليقين بأن نصر الله قريب، وأن فرجه آتٍ، وأن بعد الضيق سعة، وأن بعد العسر يسرًا، وأن ما وعد الله به المبتلِين من الجزاء لابد أن يتحقق. قال تعالى: {فإن مع العسر يسرًا. إن مع العسر يسرًا} [الشرح: 5-6].
* الاستعانة بالله واللجوء إلى حماه، فيشعر المسلم الصابر بأن الله معه، وأنه في رعايته. قال الله -تعالى-: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 46].
* الاقتداء بأهل الصبر والعزائم، والتأمل في سير الصابرين وما لاقوه من ألوان البلاء والشدائد، وبخاصة أنبياء الله ورسله.
* الإيمان بقدر الله، وأن قضاءه نافذ لا محالة، وأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله
يسير . لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} [الحديد: 22-23].
الابتعاد عن الاستعجال والغضب وشدة الحزن والضيق واليأس من رحمة الله؛ لأن كل ذلك يضعف من الصبر والمثابرة.
قال ابن القيم رحمه الله: (فالأولان صبر على ما يتعلق بالكسب، والثالث صبر على ما لا كسب للعبد فيه.
وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ قدَّس الله روحه ـ يقول: كان صبر يوسف عن مطاوعة امرأة العزيز على شأنها أكمل من صبره على إلقاء إخوته له في الجب، وبيعه، وتفريقهم بينه وبين أبيه، فإن هذه أمور جرت عليه بغير اختياره، ولا كسب له فيها، ليس للعبد فيها حيلة غير الصبر، أما صبره عن المعصية، فصبر اختيار ورضا، ومحاربة النفس، ولا سيما مع الأسباب التي تقوى معها دواعي الموافقة، فإنه كان شاباً، وداعية الشباب إليها قوية، وعَزَباً ليس له ما يعوضه ويبرد شهوته، وغريباً والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه مَنْ بين أصحابه ومعارفه وأهله، ومملوكاً والمملوك أيضاً ليس له وازع كوازع الحر، والمرأة جميلة، وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي الداعية له إلى نفسها، والحريصة على ذلك أشد الحرص، ومع ذلك توعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار، ومع هذه الدواعي كلها صبر اختياراً وإيثاراً لما عند الله، وأين هذا من صبره في الجب على ما ليس من كسبه؟!
وكان يقول: الصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرَّمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعة أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية).1
وما قاله شيخ الإسلام هو الحق، فقد قرن الله بين الصبر والإيمان والعمل، حيث قال في سورة العصر: "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر"، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل من القرآن إلا هذه السورة لكانت كافية وحجة على الأمة.
والدليل على ذلك أن كثيراً من الخلق يسهل عليهم الصبر على المصائب والبلايا وعن المعاصي، ولكن قليل منهم من يصبر على طاعة الله عز وجل، بل من الناس من يصبر على المعاصي ويتحمل من أجلها ما لا يتحمل معشار معشاره على طاعة الله عز وجل.
قال المزني رحمه الله: (سمعتُ الشافعي رحمه الله يقول: رأيتُ بالمدينة ـ المنورة ـ أربع عجائب، رأيتُ جَدَّة بنت إحدى وعشرين سنة، ورأيتُ رجلاً فلسه القاضي في مدين نَوَى، ورأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون سنة، يدور نهاره أجمع حافياً راجلاً على القينات يعلمهن الغناء، فإذا أتى الصلاة صلى قاعداً، ونسيتُ الرابعة).2
وشاهدنا في قوله: "ورأيتُ شيخاً قد أتى عليه تسعون.." إلخ.
وما تعجب منه الشافعي، وحق له أن يعد ذلك من العجائب، مُشاهَد، فإنك تجد البائع واقفاً في سوقه من الصباح إلى المساء لا يفتر ولا يقعد، وكذلك مشجع الكرة يقف على رجل واحدة ويصيح بملء فيه ويدخل الملعب قبل ثلاث ساعات من موعد المباراة، وتجد الفنان يقيم الحفلة إلى مشارف الصبح، والمصلي يخرج من المسجد يقف يتكلم في أمور الدنيا الساعة والساعتين، وغيرُهم كثير، فإذا استغرقت الصلاة ربع ساعة، أواطمأن الإمامُ في ركوعه وسجوده قليلاً، قامت الدنيا ولم تقعد، وتضجَّر الناسُ، واشتكوا، ومنهم من يشكو الإمام إلى المسؤولين وإلى لجنة المسجد، ورفع في وجه الإمام كلمة الحق التي يريدون بها باطلاً: "من أمَّ الناس فليخفف فإن فيهم الضعيف.." الحديث.
وكأن الصحابة رضوان الله عليهم الذين كان يؤمهم الرسول صلى الله عليه وسلم في المغرب أحياناً بالأعراف والصافات، والذين أمهم أبوبكر الصديق مرة بالبقرة كلها في صلاة الصبح، والذين كثيراً ما كان يؤمهم عمر في الصبح بيوسف، وهود، والنحل، ليس فيهم مريض ولا ضعيف؟
وتثريب الرسول صلى الله عليه وسلم على معاذ رضي الله عنه لأنه كان يصلي معه العشاء ثم يذهب ليؤم قومه بعد ذلك، وقد أمهم يوماً بالبقرة في الركعة الأولى من العشاء، وبالقمر في الثانية، وعندما خرج أعرابي من صلاته نال منه معاذ بأنه منافق! ومن أجل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.
أين هذا كله مما عليه الأئمة الآن؟! فتبيَّن أن احتجاج البعض بهذا الحديث ليس في موضع النزاع، فمن فعل كما فعل معاذ يكون فتاناً حقاً، ولكن مَنْ مِن الأئمة الآن يستطيع أن يفعل ذلك ولو كان فذاً؟!
أعجب من هؤلاء جميعاً من يحيي ليله بالرقص، والتواجد، والضرب بالأقدام على الأرض، فإذا حان وقت صلاة الصبح تفرَّق جلهم، ومن بقي صُلِّيَ بهم بقصار المفصل من غير اطمئنان ولا خشوع.
لقد صاغ العلامة ابن القيم رحمه الله حال هذه الطائفة ـ الصوفية ـ التي أسِّست على الكسل كما قال الشافعي، شعراً، حيث ذكر جدهم واجتهادهم عند السماع، والرقص، والتواجد، الذي هو دين عباد العجل، عندما اتخذ لهم السامري عجلاً جسداً له خوار، فقاموا حواليه يرقصون ويتواجدون حتى يقع أحدُهم مغشياً عليه، فالرقص، والتواجد، والسماع الصوفي ليس من الذكر الذي شرعه الله لعباده على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان هو وأصحابه يذكرون الله وكأنما على رؤوسهم الطير من الوقار والسكينة، مقارناً له بصدودهم عن سماع آي القرآن والعلم، وعن الخشوع والاطمئنان في الصلاة التي هي من أجلِّ الأعمال الجسمانية البدنية وهي المتكررة في كل يوم وليلة طيلة الحياة . قال وهببن منبه . كان في بني إسرائيل عابد . فلبث سبعا لم يطعم هو عياله شيئا . فقال له امرأته : لو خرجت فطلبت لنا شيئا فخرج فوقف مع العمال . فاستؤجر العمال وصرف الله عنه الرزق . ولم يستأجره أحد . فقال : والله لأعملن اليوم مع ربي فجاء إلى ساحل البحر فاغسل ولم يزل راكعا وساجدا حتى أمسى وأتى أهله . فقالت امرأته ماذا صنعت ؟ قال : قد عملت مع أستاذ لي . وقد وعدني أن يعطيني . ثم غدا إلى السوق فوقف مع العمال ، فاستؤجر العمال ، وصرف الله عنه الرزق ، ولم يستأجره أحد . فقال : والله لأعملن اليوم مع بري فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل ، ولم يزل راكعا وساجدا حتى إذا أمسى أقبل إلى منزله ، فقالت له امرأته : ماذا صنعت ؟ قال : إن أستاذي قد وعدني أن يجمع لي أجرتي ، فخاصمته امرأته وبرزت عليه ، ولبت يتقلب ظهرا لبطن، وبطن لظهر ، وصبيانه يتضاغون جوعا ، ثم غدا إلى السوق فاستؤجر العمال ، وصرف الله عنه الرزق ولم يستأجره أحد فقال : والله لأعملن اليوم مع ربي ، فجاء إلى ساحل البحر فاغتسل ، ولم يزل راكعا وساجدا حتى إذا أمسى . قال : إلى أين أمضي ؟ وأنا قد تركت العيال يتضاغون من الجوع ! ثم تحامل على جهد منه . فلما قرب من باب داره سمع ضحكا وسرورا ، وشم رائحة قديدا وشواء فأخذ على بصره ، فقال : هل أنا نائم أميقظان ! تركت أقواما يتضاغون جوعا ، وأشم رائحة قديد وشواء وأسمع ضحكا وسرورا ! ثم دنا من باب داره فطرق الباب فخرجت امرأته حاسرة قد حسرت عن ذراعيها ، وهي تضحك في وجهه ، ثم قالت : يا فلان قد جاءنا رسول أستاذك ، فأتانا بدنانير وكسوة وودك وكسوة ودقيق ، وقال إذا جاء فلان فأقرؤه السلام ، وقولوا له : إن أستاذك يقول لك : قد رأيت عملك وقد رضيته ، فإن أنت زدتني في العمل زدتك في الأجرة . قال الشاعر :
عليك إذا ضاقت أمورك والتوت ....... بصبر فإن الضيق مفتاحه الصبر
ولا تشكون إلا إلى الله وحده ........... فمن عنده تأتي الفوائد والنصر
فرج اللـه قريب يقول الإمام الشافعي رحمه الله :
وَلَرُبَّ نَازِلَةٍ يَضِيقُ لَهَا الْفَتَى ........ذرعاً وَعِنْدَ اللَّهِ مِنْهَا الْمَخْرَجُ
ضَاقَتْ فَلَمّا اسْتَحْكَمَتْ حَلَقَاتُها .......فُرِجَتْ، وَكُنْتُ أظُنُّهَا لا تُفْرَجُ
وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ( ياغلام ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ؟ أحفظ الله يحفظك أحفظ الله تجده أمامك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة ، إذا سألت فأسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، جف القلم بما هو كائن فلو اجتمع الخلق على أن يعطوك شيئا لم يكتبه الله لك ، لم يقدروا عليه أو على أن يمنعوك شيئا كتبه الله لك . لم يقدروا عليه ، فاعمل لله بالرضي في اليقين . وأعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسرا )
وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أوصني . قال له ( اتق الله حيث كنت . قال زدني . قال : اتبع السيئة الحسنة ، قال : زدني قال : خالط الناس بخلق حسن )
وصلى الله على سيد الأولين والآخرين محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين . وسلم تسليما كثرا إلى يوم الدين . آميـــــن ،،